المهندس
مشرف عام
المشاركات : 229 العمر : 44
| موضوع: نظرات في إصلاح التفكير الخميس سبتمبر 24, 2009 1:07 am | |
| السلام عليكم ورحمة الله
لعل من اهم اسباب الانحدار في حياة الأمم والاضطراب في نظامها ان تكون لها ثقافة غير سوية، تحمل الفرد على سلوك طرائق متناقضة في التفكير
والتصرف.ولست اعني بالثقافة شيئاً غير ذلك الدستور الأخلاقي والقانون الاجتماعي الذي يطبع سلوك الفرد في جميع احواله، بحيث ترجع اليه سائر
تصرفات الفرد من اقوال وافعال.
اننا بمسيس الحاجة الى غرس ثقافة واعية نقية تصطبغ بها حياة الناس في مجتمعاتنا الاجتماعية، كتلك الثقافة التي اصطبغت بها حياة
الصحابة رضوان الله عليهم، فكان من ثمارها ان اشرقت دنياهم بالنماء والازدهار وارتقت في سلم الحضارة الانسانية.ان هذه الثقافة تقوم فينا بدورين:
الأول: من جانب الوجود بأن تحفظ لعقولنا القدرة على التفكير السليم.
والثاني: من جانب العدم بأن تدرأ عن عقولنا الآفات التي قد تصيبا فتكون سبباً للاختلال في النظر والتفكير.
وإن خير وسيلة للتحقق بهذه الثقافة ، بل وهي الخميرة الأولية اللازمة لذلك ، توفير البيئة المناسبة المتمثلة في
فتح منافذ التفكير الصحيح وتوفير الحرية الفكرية غير المشوبة بأي معنى من معاني الإكراه الحسي او المعنوي .
وهذا المعنى فهمه الرعيل الأول في صدر الإسلام ، وتجلى ذلك في نماذج شتى، من اظهرها انهم تفرقوا في البلاد ،
ونشر كل واحدي منهم فتاواه واجتهاداته بحرية تامة ، وعرض ما عنده من حجج وبينات ، وجرت بسبب ذلك المناظرات العلمية
والحوارات المعرفية الأخوية التي يتجلى فيها الأدب والخلق الرفيع ، والتي لم تكن سبباً للمشاحنات ولا للتنابز بل كانت عامل ثراء فكري،
وكتب الفقه الإسلامي بما تضمنته من نقل لأقوال العلماء ، ودراستها وتمحيصها ، خير شاهد على ذلك، حتى انهم يعدون من يعرف اقوال
الفقهاء وأسباب اختلافهم هو الفقيه حقاً. بل ان التاريخ حفظ لنا صوراً، فيها من التفتح على الحياة الانسانية والتسامح ما نفاخر به الأمم الاخرى.
ولم يكن الإمام مالك رحمه الله منفرداً برأي، ولا مستقلاً باجتهاد حين قال له الخليفة ابو جعفر المنصور: اني قد عزمت على ان امر
بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم ابعث الى كل مصر من امصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم ان يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه الى غيره،
اجابه الإمام مالك رحمه الله: لا تفعل يا امير المؤمنين، فإن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان،
وكل عند نفسه مصيب.
ولأن هذا القول من الإمام مالك رحمه الله نموذج تطبيقي ومثال واقعي رائع، لمبدأ الحرية الفكرية في الإسلام فقد تناقل العلماء هذه الحكاية
في كتبهم ولقنوها لطلابهم لاتفاقهم على مضمونها.
ان الشأن في نشر ثقافة الحرية الفكرية، ان تكون طرائق التفكير عندنا صحيحة، فلا مجال حصول التشويش فيها بسبب العواطف القلبية
او الرعونات النفسية، كما ان الشأن في ثقافة الكبت والإكراه ان توقعنا في
اخطاء كثيرة في الفهم للأشياء وفي التعامل معها.فمن ذلك ان نستحسن من الامور ما ليس بحسن، او نستقبح ما ليس بقبيح،
وهذا فساد في الذوق، لأن المحب كثيرا ما يحب غير النهاية في الجمال، ويتعلق بغير الغاية في الكمال، وبسبب الحب يكون هواه يقظان،
ويكون رأيه نائما، فهو أسير هواه، وقد قيل: حبك الشيء يعمي ويصم.
وقد رأيت في كلمة كتبها اخ وصديق عزيز، وقد باح في هذه الكلمة بعبارات من الثناء والاطراء، في الشيخ الجليل أحمد ابن تيمية رحمه الله،
والتي اعلم ان الدافع اليها اعجاب وحب، والحب سوط سائق، كما قال ابن نباتة: يقلب لي وجدي به سوط سائق، فالمحب مجذوب بداعي الهوى.
والملاحظ انني لم اجد في مقالة اخي حفظه الله ما يدعو الى العجب، فلقد اعتدت سماع كثير من المبالغات في الثناء على الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى،
حتى اصبحت هذه المبالغات شيئا مألوفا وذوقا عاما، لا يستثير في النفس داعي الاستغراب ولا النكارة، وهذه مشكلة ثقافية وذوقية نعيشها اليوم.
وانني وان كنت لم اسمع احدا نص على عصمة هذا العالم الكبير ولا على عصمة غيره من العلماء، غير ان الواقع وشاهد الحال دال بجلاء على ان
من الناس من يرى ان هذا الشيخ الجليل رحمه الله، لا يجري عليه الخطأ، وان الكلمة التي ينطق بها اصل يرجع اليه، وان الحكم الذي يختاره في
مسألة اصولية او فرعية ـ وربما سموها اختيار ابن تيمية ـ اشبه بالنص في محل النزاع.
ان من اسباب اختلال التفكير وفساد الذوق، ان يقتصر المرء في شربه من كف واحدة، كما ان من صلاح الذوق ان يشرب الانسان من
اكف متعددة ومشارب متنوعة، فتقوى عنده حاسة التذوق للاشياء والادراك للمعاني، وقد كان العلماء يتمدحون بكثرة الشيوخ، ويعدون من نقص الطالب
وقصوره ان يقتصر طلبه على شيخ واحد يبقى بسببه عقله مغلقا على آراء استاذه واجتهاداته.
ومن يقرأ لابن تيمية رحمه الله يرى انه بشر يصدر منه الخطأ ويصدر منه الصواب، وقد ينفرد بأقوال يخالف فيها الاخرون، ولعل من
العدل والانصاف ان نلتمس له المعاذير ان اخطأ، كما ان من الظلم والاجحاف ان نحصر قراءاتنا على مقولاته ونكون مقلدين له، فان الله تعالى
قد ضمن لنا العصمة في الجماعة ولم يضمن لنا العصمة في رأي ينفرد به فرد من الافراد، عدا الانبياء عليهم الصلاة والسلام. وانني لو اقتصرت
في غذائي العلمي على شيخ واحد ـ خاصة اذا كان هذا الشيخ يعيش معركة كلامية مع الاخرين، افضت به الى تجريح وتعديل للخصوم ـ لاصبح
شأني شأن الكثير من الكتاب الذين تغذت عقولهم بثقافة تمشي على رجل واحدة، وتفسر الاشياء بنظرية العامل الواحد وترفض قبول الآخر، وهذا الامر
موضع قد يعزل الانسان عن رأي الجماعة، ويجعل قلبه منجذبا الى استاذه بحيث لا يقبل مخالفا له، وربما افضى به الحال الى النيل من عقائد الآخر
تعديلا وتجريحا، وقد يصبح الدين عنده تبديع المخالف وتفسيقه، وربما صار الغيور على دينه هو الغماز اللماز، يقع في اعراض الآخرين وأديانهم،
وتحليل اقوالهم ودعوى الاطلاع على القصود والنيات، باسم الغيرة الدينية آنا، وباسم حماية التوحيد انا آخر، وفضيلة اخي وصديقي كان واحدا ممن ابتلى بهؤلاء،
فلم يسلم من ألسنتهم. واين هذا المسلك من هدي الانبياء عليهم الصلاة والسلام، هدي يتلمس في المرء دلائل التوحيد ويتتبع علامات الايمان ليحكم عليه بالاسلام،
ولو بالظنة الخالية من القرائن، كما في الحديث الشريف: (هل اشققت عن قلبه)، ولا يتتبع نواقص التوحيد وموجبات التكفير والتبديع والتضليل،
لغموضها ودقة شبهها، واختلاف قرائنها، وكثرة احتمالاتها، والا لصار المسلم على وجل وخوف من عقيدته ان تعود عليه بالتكفير لادنى زلة تقع منه ولأوهى سبب يتلبس به، ولقال عن عقيدته بلسان الحال: ما بالها سيفا عليَّ مسلطا.
وليست الكتابات المشينة المنتشرة في واقع الانترنت وما فيها من تتبع لعورات الكتاب والباحثين بل والعلماء الاجلاء ومنهم فضيلة اخي وصديقي،
ورميهم بعبارات التفسيق والتبديع والتضليل والتكفير الا ثمرة لهذه التربية الخاطئة.وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من صور التربية الخاطئة،
مثل ما وقع من أبي الهذيل العلاف المعتزلي مع تلميذه ابراهيم النظام، فقد دخل النظام على استاذه ومربيه العلاف، ووجه اليه سؤالا
على سبيل الاستشكال من تلميذ لاستاذه، فما كان من استاذه العلاف حين عجز عن الجواب الا ان بصق في وجه تلميذه،
فقال التلميذ لأستاذه: قبحك الله من شيخ ما اضعف حجتك واسفه حلمك، وهذا الحال تعبير دقيق عن نفوس تأبى الحوار العلمي،
بل لا تقبل الرأي الآخر فضلا عن ان تعرضه على مائدة الدراسة البحث.
غير ان من الخطأ ان نعالج نفوس هؤلاء الشباب الاغرار بنفس طرائق التربية التي ربيناهم عليها، بسلاح القهر والحرمان
والتبديع والتضليل، فهذا سلاح المفلس افتقد سلاح العلم فلجأ الى غيره، في حين ان هؤلاء الشباب بحاجة منا الى رعاية
وتعليم وحسن تربية، وتبصير بحقائق هذا الدين وخاصة حقائق التوحيد ومعانيه، التي اضطربت في نفوس الناشئة اليوم،
بل اني وجدتها مضطربة عند كثير ممن ينتسبون للعلوم الشرعية، واصبحت غير واضحة المعالم، فأوقعت الكثير من
شبابنا فيما هم فيه اليوم مما تراه على جدران الانترنت. ما كنت اود ان ارى بعض العبارات التي قرأتها في مقال فضيلة اخي وصديقي، وان كان الجواد قد يعثر، من مثل قوله
عن ابن تيمية رحمه الله (ويرد بأشعاره تأويلات الاشعري، ويفحم بردوده الماتريدي).اني اكن لاخي رعاه الله مودة ومحبة
كادت تمنعني عن التنبيه على هذه الزلة، ولكن فليشفع لي هول ما قرأت، ففي هذه العبارة انتقاص لعلمين بارزين في تاريخ الاسلام،
وقد ارتضتهما الامة بعلمائها كما قال القاضي عياض رحمه الله، وارتضت منهم ما لم ترضه من ابن تيمية رحمه الله، بل قد وصف
الاشعري رحمه الله علماء زمانه بناصر السنة، ودونك اخي القارئ المكتبة الاسلامية تجدها خير شاهد على قبول العلماء لهذين الامامين،
فهل نأتي نحن بأخرة من الزمن لنلمزهم ونغض من شأنهم، ونحن نقتات على موائدهم! اهكذا تتربى الاجيال على التقليد المحض لفرد واحد
ترضى عمن يرضى عنه وتغضب على من يغضب عليه، فإن خطأ الامام الاشعري رحمه الله خطأناه، وان صوبه صوبناه. والى متى تبقى الاجيال الناشئة من شبابنا امعة، لا رأي لها ولا قول، مكبلة في تفكيرها، بعيدة عن الرجوع والاخذ من عمالقة الفكر الاسلامي،
امثال لسان الامة ابي بكر الباقلاني والامام الجويني وابي جعفر السمناني وابي الوليد الباجي وابي بكر بن العربي والعز بن عبدالسلام،
وغيرهم الكثير الكثير ممن كانوا منارات حضارتنا الاسلامية العظيمة.ان الحديث ذو شجون لو تركت للقلم المجال، غير اني احب ان اشير
الى انني كتبت هذه الكلمة وانا اعلم ان في الناس من مثقفي هذا الزمان من سيقرؤها - بحكم ثقافته - بقلب مصطلمي بنيران المحبة
للشيخ ابن تيمية رحمه الله، فلا يرى فيها الا ذماً وانتقاصاً من شأنه رحمه الله، وهذا انسان تصور المعنى بغير صورته وتخيل الصواب
خطأ، فمن عذيري من مثل هؤلاء؟وعقيدتنا ان استعلان احد من الناس بشهادة التوحيد تفرض علينا ان نحبه، فكيف اذا كان هذا المرء
من العلماء العاملين الذين لهم فضل وسبق؟ هذه عقيدة يعتقدها المسلم، لا تقبل المجاملة ولا المحاباة ولا لابن تيمية رحمه الله ولا لغيره،
بل اننا نحب كل مسلم وان كان عاصياً مسرفاً على نفسه غارقاً في ذنوبه، نعم نكره ما تلبس فيه من معصية ونرجو خروجه منها،
ونسعى لاخراجه من معصيته خوفاً عليه ورحمة به، لاحقداً ولا تشفياً، بل هذا نهجنا مع جميع الخلق،
وهو سبيل الانبياء عليهم الصلاة والسلام، سبيل دعوة الناس الى الخير وهدايتهم اليه من غير تبكيت ولا استشارة بل بتلطف،
ليقولوا لا اله الا الله كلمة تشفع لهم عند الله.
ولك ان تنظر يا اخي القارئ الكريم الى غراس ثقافة واعية، وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله حين ذكر
ابن تيمية رحمه الله على احد المبتدعة، فأثنى على ما في رده من الصواب والسداد في وقوله وعلمه، غير انه لم يقبل منه
ترك العدل الى الشطط، فقال في كتابه «الدرر الكامنة» وهو يصف رد ابن تيمية رحمه الله: «وقد اطنب فيه واسهب واجاد في الرد،
الا انه - اي ابن تيمية رحمه الله - تحامل في مواضيع عديدة، ورد احاديث موجودة، وان كانت ضعيفة بأنها مختلقة»
وهذا هو عين الانصاف والعدل.
اسأل الله ان يجعل ثقافتنا سوية متسقة لا عوج فيها ولا أمْتا، وان يزيل عن بصائرنا حجاب الجهالة والغفلة وان يكشف
عنها غياهب الهوى والرَّين، والحمد لله رب العالمين.
وعليم السلام ورحمة الله وباركاته
| |
|